قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك
قد يكون الجهاد فرض عين على المسلم، كما لو عينه الإمام ، ولا يجوزله التخلف عنه حينئذ إلا لعذر شرعي . لذلك عندما يستنفر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين للجهاد يخرج كل مسلم صادق ، ولا يتخلف إلا أهل الأعذار الشرعية أو أهل النفاق، ولكن في غزوة تبوك تخلف ثلاثة رجال كعب بن مالك و مرارة بن ربيع و هلال ابن أبي أمية عن الغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عذر شرعي ولا نفاق.
تخلف الثلاثة عن الغزو الذي كان في زمان الحر والشدة ، ولكن
رغم فداحة الذنب وعظمته تجاوز الله عنهم وغفر لهم صنيعهم ، لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم
ومع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يخادعوه ولم يأتوا بأعذار كاذبة ، بل صدقوا
واعترفوا بتخلفهم ، ولجؤوا إلى الله تائبين مستغفرين فتاب الله عليهم.
قال كعب : غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين
طابت الثمار، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، ولم أتجهز
وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت ، فلما انفرط
الأمر ، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق - أي مشهورا
به - أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عاد راجعا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول : بماذا أخرج من سخط رسول
الله ؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه .
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد
وجلس للناس ، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر
لهم ، وكانوا بضعا وثمانين رجلاًَ ، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب ، فقال لي
، ما خلفك ؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا ، لخرجت من سخطه
بعذر ولقد أعطيت جدلاً ، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك .
فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر،
ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال
أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية وكان
فيهما لي أسوة .
ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة ، فاجتبنا الناس
، وتغيروا لنا ، فتنكرت لي نفسي والأرض ، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما ، أما
أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي .
بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول
لي : الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك ، قلت: هذا من البلاء أيضا ، فحرقت الرسالة
، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي
فقلت : الحقي بأهلك ، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً .
فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة ، قال
كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يومئذ ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني
.
والآيات التي نزلت في توبتهم هي قوله تعالى:{ وعلى الثلاثة
الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ
من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة:118،119).
وهكذا أزاح الله هذه الغشاوة المحزنة عن هؤلاء النفر الثلاثة،
بعدما كادوا يقعون في الهلاك بسبب تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضاقت
عليهم الأرض رغم رحابتها، وضاقت عليهم أنفسهم، فعلموا أن الملجأ من الله لا يتم إلا
بالعودة إليه، فاستجاب الله لهم ،وغفر زلتهم، وهذه القصة اشتملت على فوائد و عبر كثيرة
:
منها: أن القعود عن الجهاد عند استنفار الإمام يعد إثما كبيرا
في الإسلام تجب التوبة منه.
ومنها: تعامل الصحابة مع أمر النبي صلي الله عليه وسلم، وتنفيذهم
له ،حتى ولو كان الأمر يتعلق بأقاربهم.
ومنها: ولاء الصحابة الصادق لله ،فرغم فداحة الحادثة وصعوبة
المقاطعة لم يفكر كعب بن مالك في اللحاق بالكافرين ولم يلتفت إلى عرضهم .
ومنها: قيمة الصدق في الإسلام ، وكيف أن الصدق هدى الثلاثة
إلى البر ورضوان الله، اللهم ارزقنا الصدق، واحشرنا مع الصديقين.
تعليقات
إرسال تعليق